1
هواية غريبة الانتقالُ بطائرة صغيرة من طراز قديم إلى مناطق بحيرات غائرة حيث نستقل لنغوص في أعماقٍ ملونة، ونقوم بعرض أكروبات يصوَّر ويشاهَد من جمهور ريفي قصي. 
مازال دال مخاصمي، لكن في وجودي مرةً في ستينيات القرن العشرين وعلى طريق أسفلتي عام من الندرة أن تمر عليه سيارة أقعد مع حقيبة كبيرة، ويكون أسفلَ الطريق بيتٌ قريب تراقبني فتاته الوحشية في حركتها وسكونها.
يأتي دال وأنا منشغل بالحقيبة فيصالحني ونقبّل بعضنا ويضحك هو ويبشّ ويلبس جورباً فأتذكر بأني حاف وأقول قد ضيعت جوارب، لكني أجد زوجين جميلين منها فألبسهما.. 
في بيتنا السبعينيات حجرةٌ منفصلة بنيت خطأً وسط الباحة فصارت كتلة معيقة، نتفق وأهلي أن نزيلها ونبني سواها في صف حجرات تسور الباحة، لا أكون مفلساً ولذا أخطط علناً لتأهيل البيت الترابي، تجديد الحمام المحزن والحائط الأوسع للحجرة الكبيرة على الطريق،
التي ألجها معايناً فأراني في المهد وحيداً، نائماً، فأدعني وأمضي لأهلي يتباحثون في الباحة.
محمد في الخارج معه بيكاب ونقود كثيرة ثمن محصول الأرض، في حُزم يوزعها موفياً ديون فصولٍ ثلاثة وغالباً تكون لأمي رزمة منها، ولذلك علينا أن نرمم البيت تماماً بأفضل ما يتناسب معنا.. 
في محل الميكانيكي جارنا قد تجمّعوا وأظلمت السماء ليحين وقت الرعب لقاء عقارب لن تنتهي في بيتنا بسهولة.
***
2
مع دال وحاء في شارع البلدية على اليمين قبالة بيت (حسني) بعد أيام أو شهور أو سنين من التزام البيت في اضطراب، جراء جرائم قتل خطأ ارتكبتها أو تسببت بها بطرق مركبة لم أقصدها ولا توجّهُ شبهةً نحوي. 
كان دال هادئاً مراعياً إياي بشدة حين عبرنا من حينا الشرقي في طرق ترابية إلى غربي المدينة الفارغة في ذلك الوقت حيث التقينا بحاء.
 كان مساءً صيفياً معتدلاً وكنت استحممت للتو أنيقاً وساكن التعابير وحين ثنيت ركبتي لأشد رباط حذائي، نسيت عقده، كانت فتاة ممسوسة أمامنا تمضي في سبيلها توقفَت وسألتني عن علتي فأجبت بصوت خفيض بعد تردد كيلا أتيح لها كلاماً قد يطول بأنها أوجاع ركبة، 
فكررتْ كلامي وهمّت بمتابعة سيرها لكنها عثرت على فرص لأسئلة وتعقيبات فاحصة علي فيما ثلاثتنا كأننا معرضون لخطر بالغ أمامها ننتظر تدعنا الممسوسةُ، فأرخت وبعدت قليلاً مع رفيقةٍ ولم تفلتنا مناوراتُها ونظراتها أنى توجهنا،ولما اختفت حرنا أين نمضي كي نضللها فقصدنا الشمال حيث بيت أحد قتلاي وكنت أسررت لدال وحده بجرائمي، واضطررنا لأسباب التخفي أن نزحف في شارع ترابي لفّه ظلام فتقيأتُ أثناء ذلك واعتذرت لدال إن لمس القيء ثيابه، وأشرت لهما أن يتابعا في المنعرج بينما أتلكأ.. لا أعرف كيف انقضت تلك الليلة.. 
في يوم قريب كنت في اجتماع ثقافي في هواء بحري طلق، وكِّلتْ إلي بمقابلٍ مجزٍ مهمةُ أخذ فيديوهات في قاع نهرنا العكر الضحل داخل أراضي جوارٍ ممنوع ينحدر إليها، كانت مهمة مستحيلة بالنسبة إلى مرتعدٍ من الماء منذ طفولته ومتخيلٍ أسماك الشبوط في افتراس القرش وأكثر عدوانية وشراسة، بيد أني فكرت طالما أنه ليس هناك من خفر على عبور النهر فإنه وسيلة جيدة للمستميتين في طلب هجرة مخالفة.. 
وعلى صعيد أخير ووحيد تبقّى عندي أن أجد فرصة مفقودة لأبلغ أطفالي السعداء نصائح لن يفهموها، وفحواها أن يكون كلُّ فعل وكلمة وخاطر بحسبان. 
***
3
كان لا بد من سفرنا. ركبنا قارباً متوسطاً يقودنا شاب مصري مثقف مرح يسخر من الصحافة الحديثة وأصحابها، فأضحك دون تعقيب وأكظم ملاحظات كثيرة فنحن وحسب عابرون إلى جزيرة قريبة، أذكر رداً ذكياً للشاب على سؤال شابة مصرية مثقفة أيضاً عما يريده الكتاب المصريون من بريطانيا في المهرجان الذي خصتهم به، إذ قال بأنها الجنسية البريطانية ما يريدون، وحينها ضحكت زوجتي والأولاد معي طويلاً.. 
في الجزيرة النائية الفقيرة كما بدت حفلةُ عرس فيما تجذبنا آفاق مظلمة وراء بحرها، أرض واسعة كئيبة اخترناها لائقة بمعاناة دائمة. 
غادرنا ساحة الاحتفال لنمشي على رصيف مضاء يحيط الجزيرة، كان ثمة دكان يقف أمامه رتل مبتاعين فالتحق طفلنا بنهايته ولما اقترب من مصطبة البائع مضيت إلى جانبه واشترينا قلم رصاص، كان البائع من مدينتا الأم البعيدة بحيث لا يمكن الرجوع إليها، فكسر القلم وسوّى القسمين بالمشرط، وذكّره طفلي بأمر حصل في عرسه قبل أن نهجر بيوتنا.
***
4
إلى الباحة الخلفية للعمارة نزل طفلي الصغير مع أصدقائه سبعة طوابق، فقد تعلم الخروج معهم كل يوم بضع ساعات أثناء البرد. 
يدير كبيرُهم العمل في حفر وبناء أسوار منهمكاً تماماً، وأنا أنشغل من مكاني المغلق العالي بالقلق.. 
كانت هناك فترة أخرى أشد قلقاً عليه، حين كان الصيف واجتماع الأهل في باحة ترابية واسعة لأيام، والصغير شغف بهريرة تناهى إلي أنها مريضة، فكانا لا يفترقان بخاصة أثناء النوم فقد أحبَّ قريبٌ ضاحك أن ينام صغيري والهريرة إليه، ومهما سعيت للرفض لم أثن الصغير عن إصراره أن يعذبني ويستجرَّ عدوى داء الهريرة إلى رقاقات جسمه.


المصدر: صفحة الكاتب من فيسبوك


مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية